في ظلّ المتغيّرات المستمرّة في عالمنا المنفتح على بعضه بفضل العولمة والتطوّر التكنولوجي، تظلّ اللغة العربية رابطةً حيوية لتراث العالم العربي وهويته ومخزونه الثقافي والفني. إنّ حماية هذه اللغة أمرٌ يرتبط بالهوية والمصير المشترك، ليس فقط على صعيد التواصل، بل للحفاظ أيضاً على القيم والثقافة العربية. في جميع أنحاء العالم العربي، هناك مبادرات مؤثّرة تسعى إلى إبقاء اللغة العربية نابضة بالحياة للأجيال القادمة، وفي ما يلي نظرة على ست مبادرات رائدة في مجال حماية اللغة العربية وتعزيزها في سياقات الحداثة والتراث العريق على حدّ سواء.
جائزة محمد بن راشد للغة العربية
أطلقت مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة هذه الجائزة بهدف تعزيز حضور اللغة العربية وترسيخ مكانتها على المستويين الإقليمي والدولي. تُكافئ الجائزة المساهمات الاستثنائية التي تدعم تطوير اللغة العربية وانتشارها عبر قطاعات ومحاور متنوّعة، بما فيها التعليم والإعلام والتقانة (التكنولوجيا). وتشمل الجائزة فئات عديدة مثل فئة التميز في التعليم والإعلام وأفضل المبادرات التي تخدم اللغة العربية، ما يُشجّع الأفراد والمؤسّسات على الابتكار في تعزيز اللغة. ومن خلال هذا التكريم تسعى المبادرة إلى خلق بيئة حاضنة تُثمر عن إبداعات ومبادرات نوعية تتجاوز التقليدي والمألوف، وهذا ما يعزّز دور اللغة العربية في العالم المعاصر عبر مختلف المجالات الحيوية، ويدفع بتجارب جديدة تُسهم في إثراء المحتوى اللغوي وتوسيع آفاق استخدامها في المجتمع، ودعم التواصل الثقافي والمعرفي على مستوى عالمي.
مركز أبوظبي للغة العربية
أُطلق المركز من قبل دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي ليكون منصة متخصّصة في تعزيز الأدب العربي وتطوير مجالات الترجمة والتعليم. يعمل المركز عبر مجموعة من المبادرات مثل المنح ودعم المؤلفين ومشروعات الترجمة، بالإضافة إلى تنظيم برامج تهدف إلى تحديث المحتوى العربي وتقديمه بصور معاصرة تناسب القرّاء من مختلف الثقافات. يسعى المركز إلى ربط القرّاء من حول العالم بالثقافة العربية، ما يُثري اللغة ويعزّز مكانتها كلغة تتناغم مع روح العصر ومتطلّبات الحداثة، ويجعل اللغة العربية ذات حضور أكبر وأقوى في الساحة العالمية ويضمن مواكبتها للتطور المستمرّ عبر أقطاب شتّى.
مشروع "كلمة" للترجمة والنشر
بإشراف دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، يسعى مشروع "كلمة" إلى تقديم الأدب العالمي وأهم المؤلفات العلمية والفلسفية باللغة العربية بهدف توسيع نطاق وصول القارئ العربي إلى الأفكار والنتاجات الفكرية العالمية. أُطلق المشروع في العام 2007 عملاً بضرورة سدّ الفجوة في المحتوى العربي من خلال تقديم ترجمات دقيقة ورفيعة المستوى تشمل موضوعات متنوعة، مثل العلوم الإنسانية والاجتماعية والتاريخ والأدب الكلاسيكي والمعاصر والفكر النقدي. حتى اليوم، قدّم مشروع "كلمة" مئات الكتب المترجمة التي تعدّ من بين أهم الإصدارات الثقافية المعاصرة في العالم العربي، وهذا ما ساهم بتقوية اللغة العربية كأداة للتفاعل الفكري والروابط الثقافية وتوثيق التفاهم عبر الثقافات ورفع مكانة اللغة العربية في ساحة الفكر العالمي.
مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية
يعمل مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، والذي تأسس عام 2012 في السعودية، على دعم اللغة العربية من خلال مشروعات بحثية ومبادرات تعليمية شاملة تُروّج لاستخدام اللغة وتطويرها في الأوساط الأكاديمية والمحافل الدولية. يركّز المركز على تطوير مصادر رقمية وأدوات تعليمية متقدّمة، تهدف إلى تسهيل تعلم اللغة العربية لغير الناطقين بها وتعزيز استخدامها، إضافةً إلى إعداد المعاجم والتطبيقات اللغوية وإصدار منشورات أكاديمية تُثري الدراسات العربية وتعزّز وجودها وتؤكّد مكانتها في العصر الحديث. يُسهم المركز في تنظيم مؤتمرات دولية ومعارض تُسلط الضوء على التحدّيات المعاصرة التي تواجه اللغة وسبل تطويرها، إلى جانب إعداد برامج تدريبية للمعلمين وتوفير موارد تعليمية غنية للطلاب.
مشروع تحدّي القراءة العربي
يعدّ مشروع تحدّي القراءة العربي، الذي أطلقته مؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية عام 2015، أكبر مبادرة من نوعها لتعزيز القراءة بين الشباب في العالم العربي. يستهدف التحدّي طلاب المدارس من الصف الأول إلى الصف الثاني عشر، ويشمل أكثر من 20 دولة عربية ودولاً أجنبية تضمّ جاليات عربية. ويهدف التحدّي إلى تشجيع الطلاب على قراءة 50 كتاباً باللغة العربية خلال العام الدراسي، حيث يسجّل المشاركون تلخيصاً لكل كتاب يقرؤونه. ويحظى التحدّي بدعم كبير من المدارس والمعلمين والمكتبات، حيث تُقام ورش عمل ومسابقات محلية لتأهيل الطلاب على مستوى المدارس والمناطق قبل المشاركة في التصفيات النهائية. كما يُكرّم الفائزون بجوائز قيّمة تشمل مكافآت مالية ومنحاً دراسية، وهناك تقدير خاص للمدارس والمشرفين المتميزين.
قانون حماية اللغة العربية في الإمارات
يفرض هذا القانون استخدام اللغة العربية في الاتصالات الرسمية والعامة، بدءاً من الوثائق الحكومية وحتى اللوحات الإرشادية، لضمان ظهور اللغة العربية في الحياة اليومية. ينطبق القانون أيضاً على القطاعات الخاصة التي تقدم خدمات عامة، مثل البنوك وشركات التأمين، ويشمل وسائل الإعلام والإعلانات التجارية، ما يعزز من حضور اللغة العربية في مختلف جوانب الحياة اليومية. من خلال دمج اللغة في المجالات العامة وبيئات التواصل اليومي، يعزّز القانون الروابط بين اللغة العربية والهوية، ويحافظ عليها كجزء أساسي من التعبير الثقافي ويضمن استمرار استخدامها كلغة أساسية في المجتمع الإماراتي.
إرثٌ حي
تُشكّل هذه المبادرات دافعاً أساسياً للحفاظ على اللغة العربية، بدءاً من السياسات العامة وصولاً إلى الأدب والتكيّف مع العصر الرقمي بكل تحدّياته، بل وبإجادة التعامل معه. تضمن هذه الجهود المتضافرة بقاء اللغة العربية لغة مزدهرة ومتطوّرة، تتجذّر في التقاليد وتُواكب العصر الحديث الذي يُطالعنا كلّ يوم بجديد. إن الدعم الذي تُقدّمه هذه المبادرات للغتنا يُسهم في استدامة جمال اللغة العربية وعمقها وزخمها الفريد ويرفد امتداد تاريخها، ويربط الأجيال الحديثة بإرثٍ يتجاوز الأزمنة.